هاجرت أسرته من مدينة طنجة لتستقر بالدار البيضاء، التي حمل إليها وليداً سنة 1934م، وفي درب الحبوس ودرب اليهودي كبر الطفل عبد القادر الذي تلقى مبادئ التعليم وحب الشعر والثقافة انطلاقاً من مدرسة النجاح فالصلاح ثم الفلاح.
(في هذه الفترة كنت أدرس، وألعب كرة القدم، إذ كانت الفرق الحرة الموجودة توجه أنشطتها ضد المستعمر الفرنسي، وتنظم مباراة سنوية. في نفس الوقت، أي سنة 1948م أقيمت في درب السلطان خشبات للعروض المسرحية يشارك فيها تلاميذ وأساتذة ومؤطرون، وفق مشروع سياسي للدفاع عن الوطن. هذه الخشبات أقيمت بين أحياء درب الكبير، درب الإسبان، ودرب الأحباس).
انطلاقاً من هذه الفترة تلقى عبد القادر البدوي تكوينه المسرحي، بينما كان والده يهيئه للتوجه إلى القرويين، قصد الدراسة، إلا أن الظروف التي عرفتها مدينتا الدار البيضاء وفاس أجهضت الفكرة، كان والده من عناصر المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي وعضواً مؤسساً للنقابة الأولى في المغرب، وعضواً في جمعية نادي الشعب، فوجه ابنه إلى المسرح قائلاً له: (أنت طالب مجتهد وعاشق للمسرح، فتعلق بالمسرح ودع كرة القدم، إذ إن الأخيرة موهبة إذا تحولت إلى عنف فقدت قيمتها).
هكذا ارتمى عبد القادر البدوي في أحضان المسرح ليجد نفسه مرتبطاً به في علاقة روحية حميمية، ساعده في ذلك المرحوم عبد القادر بنمبارك الجزائري الأصل الذي كان ينتمي لفرقة الرجاء البيضاوي. (هذا الرجل كنت مساعداً له وأعتبر نفسي (متعلماً عنده) لأنه وجد نفسه في حب المسرح والإخلاص للعمل ولفكر أستاذه. وإذا كنت قد نجحت فبفضل الأساتذة الذين تربيت على أيديهم).
مات والده وهو في ريعان الشباب ليجد نفسه يتحمل مسؤولية الأسرة فالتحق بشركة التبغ، ومنها أسس فرقة (أشبال العمال) المسرحية التي تميزت بالبعد العمالي في مسرحيات قدمتها آنذاك مثل: العامل المطرود، راية العلم، المظلومون، كفاح العمال. وفي سنة 1956م أسس فرقة (العهد الجديد) تيمناً بفجر الاستقلال.
(وكان أول ناد من النوادي المسرحية بالمغرب، وكان معي العربي بنمبارك، في هذا النادي كان لا يقبل الشاب أقل من عشرين سنة إلا بموافقة ولي أمره… وبعدما قدمنا عروضاً مسرحية وطنية، عرضنا مسرحية (في سبيل التاج) مولتها بثلاثة ملايين فرنك هذا المبلغ كان ممكناً أن أشتري به العديد من العقارات آنذاك، إلا أن عشقي للمسرح كان يجذبني).
وفي سنة 1965م حول اسم الفرقة إلى (فرقة البدوي) وهي التي عرف بها إلى اليوم، والتي شكلت انتقالاً نوعياً في تبني الفرقة لقضايا جماهيرية واجتماعية، سلخ عمراً طويلاً من التواجد والحضور فوق الخشبة، مؤلفاً ومقتبساً، مازجاً بين الهزلي والاجتماعي، منذراً نفسه لقضايا الناس. وعن تجربة مسرح البدوي يقول مؤسسها:
(إن الفرقة هي مؤسسة مسرحية مستقلة، أما الأشكال المسرحية وقراءتها فمتروكة للنقاد الباحثين.. نحن ضد المسرح الفرانكفوني لأنه مسرح غير وطني، ذلك أن ما يقدم فيه يجب أن يكون وطنياً.. إننا لسنا ضد اللغات الأجنبية وأننا يجب أن ننفتح عليها لكن ليس على حساب اللغة الوطنية).
أسس البدوي مسرحاً متميزاً له خصوصياته، ومميزاته وإيجابياته وسلبياته كباقي الاتجاهات الأخرى.
تقوم فلسفة مسرح البدوي على التأصيل ضمن أخلاقيات وقناعات وثوابت الأمة، مثلما هو الحال عند كل الأمم الراقية والمتقدمة التي تخرج من دائرة التخلف والاستعباد إلى دائرة التقدم والإنتاج إلا بعد أن بنت نهضتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أسس النهضة الثقافية الفنية وفي مقدمتها الجانب المسرحي. ولعل أهم المحطات التي عرفها تطور المسرح المغربي كما يذكر هي مرحلة ما قبل الاستقلال، ثم مرحلة ما بعد الاستقلال إلى حدود 1960م ثم من 1960م إلى الثمانينات من القرن العشرين، كان مسرح البدوي حاضراً خلالها بعطاءاته المستمرة. (فالمسرحية لم نكن نؤلفها إلا وتعرض في جميع أقاليم المملكة، وفي هذا السياق كنا أول فرقة مسرحية سباقة لمسرح الطالب فأوجدنا تقاليده وقمنا على تدعيمها منذ سنة 1962م حيث قمنا بتجربة مهمة تقوم على اتصالاتنا بجميع المدارس وقمنا بتهيئة برنامج سنوي يتضمن ست عشرة مسرحية قصيرة (أغلبها اقتباسات عن تشيكوف، توفيق الحكيم، بيرناديللو، إبسن) وكان الطلبة يأتون إلى قاعة الشبيبة والرياضة بالبيضاء في أوقات تتناسب مع برامجهم المدرسية. لقد جربنا كل التجارب المسرحية).
كما اهتم بالعمل التلفزيوني ثم بالمسرح الداخلي، ثم بالمسرح داخل القرية، ثم المسرح في عروض خاصة للعمال، ومسرح الطفل، بالإضافة إلى تجارب مع القوات المسلحة الملكية داخل الثكنات وداخل المستشفيات وداخل السجون، دون أن ننسى حضوره في أغلب الأنشطة الوطنية والنضالية والقومية، خصوصاً في إطار دعم القضية الفلسطينية، كما نظّم رحلات إلى عدد من الدول العربية.
إن استمرار مسرح البدوي هو استمرار للمسرح المغربي، هدفه دائماً هو الانتصار للمسرح الحر والاستقلالية، وذلك منذ 1965م. هذا المسرح المستقل الذي يقف على عتبة عقده السادس (منذ أن انطلق من رحم الطبقات الشعبية ومن صلب منظماتها الوطنية ما جعله يظل وثيق الصلة بهموم الجماهير وتطلعاتها الوطنية والشعبية والقومية، هذا المسرح الذي لا يختلف اثنان حول قسطه الوافر في كل المعارك المطلبية التي عرفتها الساحة المسرحية النضالية بالمغرب والذي كان حضوره ملحوظاً وقوياً في كل المنعطفات التي عرفها المسار المسرحي).
وقد عرف عن عبد القادر البدوي أنه كلما سنحت الفرصة للمسرحيين المغاربة للالتقاء وتبادل الرأي والحوار إلا ونجده حاضراً باحتجاجاته الصارخة ونداءاته بتوحيد صف المسرحيين، وتشبثه بالحفاظ على الطابع الفني، الذي اختارت فرقة البدوي نهج أسلوبه خدمة للمسرح بالمغرب. ويرى أنه من واجبهم كفنانين فتح الحوار وإثراء النقاش الجاد، وتعميق الجدل حول المثار من القضايا، من أجل إنقاذ «أبو الفنون» بروح وطنية تفترض أن ينال المسرح اهتماماً كبيراً من طرف كل المسؤولين الرسميين أو السياسيين أو النقابيين بل ومن طرف كل المنظمات والجمعيات الفاعلة في الحياة الفكرية والاجتماعية بالمغرب، على اعتبار أن المسرح رافد لكل التيارات والمذاهب والطموحات التي تفرزها البنيات المجتمعية، وهو بالتالي ملك لكل الأمة ولكل فعالياتها.
وكثيراً ما وجَّه انتقاداته إلى المسؤولين وبعض رجال المسرح في بيانات ورسائل، يحمل فيها هؤلاء مسؤولية المستوى المنحط الذي آل إليه المسرح الاحترافي في السنوات الأخيرة والذين لم يضعوا مصلحة المسرح فوق مصلحة الأفراد والفرق. ويرى أن الكفيل بتحقيق أي مكسب هو وحدة الصف الفعلية مثلما كان عليه الأمر أيام المناظرة الوطنية. وبهذا وحده نستطيع فعلاً أن نكون في مستوى التخطيط والإشراف على كل أمور المسرح الاحتفالي بالمغرب المادية والمهنية والمعنوية والأخلاقية. بل وجعل قضية المسرح هي قضية كل الرأي العام الوطني. وحتماً لن تستقيم أمور هذا المسرح، ولن تتهيأ أسباب العيش فيه في أمان واطمئنان إذا لم تأخذ الهيئة التشريعية على عاتقها تقديم خدمة وطنية واجبة هي تهيئة الظروف والأجواء والمناخ أمام الممارسة المسرحية الفعلية.
الرئيسية /
/ تامغربيت
/ ثقافة وإبداع
/ في وداع عبد القادر البدوي.. الظاهرة المنفردة في المسرح المغربي